قال الإمام زين العابدين يوماً لأصحابه:"إخواني، أوصيكم بدار الآخرة، ولا أوصيكم بدار الدنيا؛ فإنكم عليها حريصون وبها متمسكون، أما بلغكم ما قال عيسى بن مريم للحواريين، قال لهم: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها، وقال: أيكم يبني على موج البحر داراً، تلكم الدار الدنيا فلاتتخذوها قرارا"

Wednesday, April 8, 2009

الدعاء و الأمل




كلما مررت بسورة مريم عليها السلام وجدت نفسي مفتقرا لأدنى صور السيطرة على عبرتي و دموعي، أشهد أقصى مراحل التفاعل الحسي و الفكري مع آياتها آية آية، أقف على معاني الجلال و الجمال الإلهي فيها، ارتشف منها قطرات من الطهارة أغسل بها قلبي الذي تلوث بمشاعر الخذلان و الحزن و القلق و الإخفاق بسب ما ينبت يوميا من سنابل البلايا و الرزايا في الدنيا و ما يتعلق بالإرتباط بها بخيوط مترهلة

دعونا نخطوا في أحد بساتين الجمال الإلهي و نقتطف أحلى الثمرو نقتفي الآثار التي تقود إلى حياض رب العالمين، ابتداءا بالرحمة الإلهية المتجلية بأحداث قصة زكريا عليه السلام الذي دعا الله عز و جل في خلوة مناجيا إياه أن يرزقه خلفا و ذرية، و لكن أولى صور الروعة تبدأ بطريقة سؤال زكريا عليه السلام و دعائه بأسلوب مميز سمته الوقار و التأدب و التذلل أمام جبار السماوات و الأرض، عزل نفسه و جردها عن الدنيا بما فيها من بهرجة و زينة كاذبة و اختلى بحبيبه، يخاطبه بكل رقة و تضرع، لم يقل أنه بات شيخا كبيرا احتراما لعلم الله بخلقه و لكنه تملق لربه مالك رقه مستدلا بذالك على ضعف بدنه و كسوة الرأس بالشيب الذي أخذ مأخذه في الشعر كمأخذ النار في الزرع مثلا، و لكن مع هذا كله لم يجد الشقاء سبيله إلى قلبه و خاطره بل السعادة كانت دوما سمتهما لغياب الحرمان من رحمة رب رحمن رحيم، و الجميل هنا أن نجد الأسلوب المجازي و الكنائي هو السائد، و من عادة الإنسان الإلتفاف حول حاجته بألفاظ ترقق قلب من يسأله، و تتضح هذه الصفة بأوضح صورها عند الأطفال، لأنهم ضعفاء حال بطبيعتهم، فأسلوب الاستمالة عادة ما يستخدمه الضعيف مع القوي، و من أقوى من جبار السماوات و الأرض سبحانه و تعالى


و يسترسل زكريا عليه السلام بمناجاته و خلوته مظهرا قلقه بشان الموت دون أن يكون له عقب يرث العلم و النبوة، و إضافة لكبر السن يورد عليه السلام المعضلة الأخرى و هي كون امرأته كانت عاقرا، و هنا نجد تضاعف مسببات المنع، فالعقل هنا و العلم إن لجأنا إليهما لا يناقشان هذا المطلب إطلاقا كونه مناف لمنطقهما، و لفقدان الأثر بين السبب و المسبب أي الإنجاب و الحمل و الزوجين ، و لكن هيهات، أي طب و أي علم، إنها الرحمة الإلهية و الشفقة الرحيمية الرحمانية، إنه الحب الإلهي من الله عز و جل لعبده الضعيف، فعطيتك و هبتك يا مالك الملك امتدادا لسلسلة النبوة ، حاملا لعلومهم و رسالاتهم يلي أمري و ارضه يا رب بكل هذا


و كنتيجة لهذا تأتي الإجابة من الكريم الوهاب بالطلبة و العطاء و الكرم، فيستفهم زكريا عليه السلام مرة أخرى من شدة فرحه ، فإجابة دعائه هي إعجاز بحد ذاتها، فكما كان خلقه سهلا على الخلاق العليم فلا صعوبة في طلبه، و كيف يصعب على الله أمر و هو من يسير الأموركلها بين الكاف و النون، سبحانه، و ما كان لأمر من كينونة لولا أمر الله سبحانه و تعالى


هذه الآيات الكريمة لطالما كانت مبعثا للأمل في قلبي، كل ما أحتاجه هو قلب طاهر و نفس تقية نقية و تذلل أمام الله عز و جل، العجيب أننا عندما نكون بصدد مقابلة أو معاملة شيخ أو تاجر أو مسؤول نراجع كلامنا و مظهرنا و مواعيدنا مليون مره قبل ان تقابله، نرتب الكلمات و نصف الأفكار و نختار الملابس بدقة، في حين أنه عندما ندعى للمثول أمام جبار السماوات و الأرض و خالق الكون لا نقوم بأقل مقدار من هذا كله


فقدان الأمل أمر يجب خلعه من القلوب، و لكم في قصة زكريا عليه السلام أعظم الأمثلة، و ليت بعضنا يخاف الله و يحترم قدرته سبحانه و تعالى كما يخاف و يحترم الشيوخ و التجار و أصحاب السلطة، التهذب في الخطاب من صفات محال رحمة الله و عطائه فلنجعل من أنفسنا مصاديقا لهذه المحال



أترككم مع الآيات، اقرؤوها ، امتزجوا بها، سترون ما أرى من أمل

بسم الله الرحمن الرحيم


كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) سورة مريم

6 comments:

  1. Yang
    و يحفظك و يحفظ غاليينك و سائر المسلمين من شرور الدنيا و الآخرة
    فعلا أخي، هذه عظمة القرآن، و أنا أجزم لك بأنك لو فعلت نفس الشيء مع نفس الآيات أو غيرها لخرجت كل مرة بياقوته قرآنية جديدة، و ماقدر الياقوت أمام حروف كتاب الله سبحانه و تعالى

    دمت و الأهل و الأحبة برعاية الله

    ReplyDelete
  2. أحسنت يا بوحمود

    جزاك الله عن الاسلام خيرا

    ReplyDelete
  3. بوصلوح الحبيب
    أحسن الله إليك عزيزي
    و جعل لكم و لسائر المسلمين من ذالك الجزاء نصيبا إن شاء الله
    دمت و الأهل و الأحبة برعاية الله

    ReplyDelete
  4. سورة مريم معجزة لغوية , كتلة من الاحساس

    ReplyDelete
  5. مطقوق
    صدقت و الله يا بو سلمى
    سبحان الله، لكل سورة روح و لكل سورة سمة و أثر
    و سورة مريم فعلا كما وصفتها
    دمت و الأهل و الأحبة برعاية الله

    ReplyDelete
  6. تلميذ
    و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته
    كلام و علم أساتذة هذا و ليس تلاميذ
    أحسنت أخي الفاضل على الإضاقات المثرية حقا و إفادتنا بهذه المعلومات القيمة حقا
    و تحياتك و تواجد مصدر بهجة و استفادة
    تقبل فائق احترامي و تقديري و شكري
    دمت و الأهل و الأحبة برعاية الله

    ReplyDelete