قال الإمام زين العابدين يوماً لأصحابه:"إخواني، أوصيكم بدار الآخرة، ولا أوصيكم بدار الدنيا؛ فإنكم عليها حريصون وبها متمسكون، أما بلغكم ما قال عيسى بن مريم للحواريين، قال لهم: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها، وقال: أيكم يبني على موج البحر داراً، تلكم الدار الدنيا فلاتتخذوها قرارا"

Sunday, July 27, 2008

حدائق الحكمة 2

ورد عن لقمان عليه السلام في وصاياه لإبنه أنه قال
"إنك من حين سقطت من بطن أمك استدبرت الدنيا واستقبلت الآخرة، وأنت في كل يوم ما استقبلت أقرب منك إلى ما استدبرت، فتزود لدار أنت مستقبلها..وعليك بالتقوى فإنه أربح التجارات.. وإذا أحدثت ذنباً فأتبعه بالاستغفار والندم والعزم على ترك العود لمثله..واجعل الموت نصب عينيك والوقوف بين يدي خالقك.. وتمثل شهادة جوارحك عليك بعملك، والملائكة الموكلين بك تستحيي منهم ومن ربك الذي هو مشاهدك..وعليك بالموعظة فاعمل بها، فإنها عند العاقل أحلى من العسل الشهد، وهي على السفيه أشق من صعود الدرجة على الشيخ الكبير.. ولا تسمع الملاهي، فإنها تنسيك الآخرة، ولكن احضر الجنائز، وزر المقابر.. تذكر الموت وما بعده من الأهوال فتأخذ حذرك"
مقدمة
إن المتمحص للعبارات سالفة الإيراد ليجد أنها بذرة لمجلد كامل مبوب معنون بعناوين عدة تعكس مطالب و جوانب متفرقة تتعلق بالحياة و الإنسان و المعاد و الحساب و أخلاقيات التعامل و حساب الذات و حكم الجوارح و جموح الإنسان و حيده و و و .... إلخ، مما يعكس العمق الفكري و التجذر الإيماني و النقاء الطرحي الذي بلغه لقمان عليه السلام بفضل من الله، و لكن مما يستوجب الإشارة إليه هو أن كل هذه الأمور أوجزها لقمان عليه السلام في سطور و كلمات قصار و محطات متفرقة يسهل توثيقها في العقل، و لكن مفتاح العقل و قناة الورود إليه هما ما يكونا في غالب الأحيان غائبين و دعوني أقول (عني) هنا حتى لا أقع في اتهام أحدا، متى ما بات مفتاح العقل و طريق الورود إليه سهلي المنال أصبح ورود مهذباته من أفكار إيمانية و خلقية سهلا يسيرا
نقاط استدراكية
فعلا، تقاس الأعمار و تحمل على صفة التزايد الظاهري للحظات العيش و النمو الجسماني و الترسب التاريخي للإنسان و الأمم، و لكن حقيقتها في العلم الإلهي متناقصة، فالمرء يولد و عمره معروف في العلم الإلهي بكل دقائقه و أحداثه، فتكون العملية تناقصية لا تزايدية كما هي لنا، تسير الأقدام في رحلة الحياة نحو الحتوف التي تكون نهايتها إما سلمات السمو إلى علياء الرضا الإلهي أم ينتهي الطريق إلى حفرة من حفر جهنم التي أسأل الله العلي القدير بكل صفة و اسم سؤل بهما فأجاب سائله أن يقي جميع المسلمين تلك العاقبة، و ما يرتبط بالمسير دائما هو أنه يطوي المسافة بين نقطة الإبتداء و الوجهة ، يزيد البعد بين نقطتي الوجود الزمني و البداية،و خير مسافر هو ذالك الذي يحسن حساب فرضيات الضياع و أخطار الطريق و يحسن الإعداد و التزود في محطاته الحياتية حيث تكون التقوى خير زاد و الإيمان خير راحلة دائما
تقضي العقول لحظات طويلة منغمسة في أهوال الدنيا و همومها، في تصرفات البشر و آثارها و توابعها، فيما يقترن بأخطائهم و مقترفاتهم و تنال من أرواحنا و أحاسيسنا ما تنال، فتتمايز ردود الفعل بين الصفح و الخصام، فهذه طبيعة البشر، و لكن الله جل و علا كتب على نفسه الرحمة التي سبقت دوما غضبه، و أصدر لنا و لسائر خلقه أمره بعدم القنوط و كان ذالك انعكاسا لصورة رائعة لإحساس سمي بالإستغفار و حالة سميت بالتوبة و رزق أهلهما عزة و علوا عنده، و من هذا أعرج إلى أمر دنيوي آخر و هو وهب الصفح عن من أساء إلينا أو ارتكب ذنبا في شخصنا فهل يكون التجاوز و الصفح أول اختياراتنا؟؟؟ لا أدري، و لكنني على ثقة تامة بأن من يمتلك تلك الخاصية المتمثلة بصفة الصفح دون تحقير لمن يهبها إليه كحالة قلبية هم جواهر البشر و أسيادهم
تمرد الجوارح صفة تخلق حينما يتلوث القلب و العقل و لجمها و كبح جموحها يكون دوما بالتذكرة المستمرة بغياب صفة الديمومة للحياة و البقاء، الجوارح ما هي إلا كهوف تتردد بها أصداء الأوامر التي يمليها عليها القلب و العقل، فهما اللذان يحكمان الإنسان حسا و فكرا، و تنقية تلك القناتين تكون بالتذكرة و الموعظة و البعد عن ملوثات الحياة و معوقات الدروب و ملهيات الفكر التي إما أن تعرقل المسافر في رحلته أم تهلكه في سفره، و يكون الخيار الأول و الأخير هنا للإنسان نفسه، فلا سلطة لأحد ترغمه و لا قوة تجبره، لأنها تسلب من أعماله صفة الأخلاص التي تحقق القبول للعمل و تطفي عليها صفة الإجبار التي تحل محلها، فلا جبر و لا تفويض، و لي في المطبات الهوائية و تغير أحوال الطقس عند السفر و تأثيرهما على استقرار الطائرة و سلامتها عظيم الأثر و العبرة، و الشعور الذي يتولد في القلوب حين المرور بتلك اللحظات أعظم تذكرة
خاتمة
كلام لقمان عليه السلام أعمق من أن أتناوله بعقيلي البسيط جدا جدا في أسطر معدودة، و لكن للمقام شروطه و أحكامه، فالمعذرة منه عليه السلام أولا و من ثم منكم و بانتظار الإستزادة من تعليقاتكم و إثراءاتكم، فلا تبخلوا على أخيكم بها، و المنفعة هنا جماعية و نسأل الله أن يسمو بنا إلى درجات الرضا العلى عنده

9 comments:

  1. خوش موضوع يا بو حمود بانتظار البقيه

    ReplyDelete
  2. مهندسنا
    مشكور حبيبي و إن شاء الله أوفق لماوضيع نخرج منها جميعا بفائدة عامةدمت بحفظ الله عزيزي
    -----
    بو سلمى
    العفو حبيبي و المنة لله وحده
    و انت مشكور على إضافة معلومة قيمة حقيقة و لن أتوانى إن شاء الله في تطبيق نصيحتك إن قسم لي الله و أتيحت أقرب فرصة
    دمت بحفظ الله عزيزي
    -----
    شذر
    شكرا جزيلا اختي
    و أسأل الله أن يوفق الجميع لما فيه خير الدنيا و الآخرة
    دمت بحفظ الله و رعايته

    ReplyDelete
  3. مَحَّضْتَنِي النُصْحَ لَكِنْ لَسْتُ أَسْمَعُهُ

    إَنَّ المُحِبَّ عَنْ العُذَّالِ فِي صَمَمِ

    إَنِّي اتَّهَمْتُ نَصِيحَ الشَّيْبِ فِي عَذَليِ

    وَالشَّيْبُ أَبْعَدُ فِي نُصْحِ عَنِ التُّهَمِ


    مشكور يا حمود

    ReplyDelete
  4. محسد
    عمرك طويل إن شاء الله و مملوء بالرحمة
    توني كنت زاير مدونتك
    :-)
    الشكر لله وحده عزيزي

    ReplyDelete
  5. على نبينا واله وعليه السلام
    مقال رائع يزيد النفس تهذيب
    ويلخص ما يجب ان يكون في محور تفكير الانسان المسلم
    راقي حتى باختيار كلماتك يا بو محمد
    الله يعطيك العافية ويوفقك دنيا واخرة

    ReplyDelete
  6. يعطيك العافية بوحمود

    نقطة مهمة للغاية وهي كيف يجب أن نستقبل النصيحة؟

    اذا وجدناها تذكرة وتهذيب للنفس كما قلت مقالتك فنحن على خير ان شاء الله

    ولكن للأسف، وأتكلم عن نفسي، دائما نجدها ثقيلة

    أحسنت

    ReplyDelete
  7. فريج سعود
    صلوات الله و سلامه عليهم جميعا
    بداية، أود أن أشكرك على ثنائك و كلي سعادة أن تجد عزيزي في الموضوع ما قد وجدت، فالفكرة و الغرض منه هو أن نرتشف جميعا ما قد لقيت أنت أخي، و الرقي ليس بالكلمات، فهي حروف تصفف، و إنما في ان تصل انت و الجميع و منهم انا إلى عمق المعاني و نجد تجاوب وجداني مع تلك الوصايا الطاهرة للقمان عليه السلام
    وفقك الله و الجميع لخير الدنيا و الآخرة
    -----
    بوصلوح
    وضعت يدك على واحدة من أكبر مشاكل بني البشر أخي، النصيحة و ما ادراك ما النصيحة، ثقل النصيحة ليس بمسألة خاصة، بل عامة و لكنها غير شاملة، كما تفضلت أخي قليل ما نراها بالصورة التهذيبية، أتعرف لماذا؟؟، ذالك لأننا نراها المارد الذي يخيف ذالك المخلوق الضعيف المتسلط الذي يولد داخلنا بين الفينة و الأخرى و هو "الأنا"، شخصيا، ثقل النصيحة ممكن التغلب عليه و لكن الإشكال يقع في رفض مبدأ المناصحة أصلا عند السواد الأعظم من بني البشر و خاصة أصحاب النفوذ المبتذل و النفخة الكاذبة
    وفقك الله و الجميع لخير الجنيا و الآخرة

    ReplyDelete
  8. بيس
    شكرا جزيلا على بيتي الشعر اللذان ينطقان بالدرر و الله، كلام رائع حصا
    دمت بحفظ الله و رعايته

    ReplyDelete
  9. ماكسميليان
    الشكر لله وحده أخي العزيز و ما المجهود إلا محاولة للإستفادة الجماعية لا الفردية، كلنا اخوه و أخوات، و بما انك ستطلع على مصادر فأرجو ان تفيدنا أو تصحح أخطاءنا إن امكن ، فكلنا نتعلم من بعض
    دمت و الجميع بحفظ الله

    ReplyDelete