ورد عن لقمان عليه السلام في وصاياه لإبنه أنه قال
"إنك من حين سقطت من بطن أمك استدبرت الدنيا واستقبلت الآخرة، وأنت في كل يوم ما استقبلت أقرب منك إلى ما استدبرت، فتزود لدار أنت مستقبلها..وعليك بالتقوى فإنه أربح التجارات.. وإذا أحدثت ذنباً فأتبعه بالاستغفار والندم والعزم على ترك العود لمثله..واجعل الموت نصب عينيك والوقوف بين يدي خالقك.. وتمثل شهادة جوارحك عليك بعملك، والملائكة الموكلين بك تستحيي منهم ومن ربك الذي هو مشاهدك..وعليك بالموعظة فاعمل بها، فإنها عند العاقل أحلى من العسل الشهد، وهي على السفيه أشق من صعود الدرجة على الشيخ الكبير.. ولا تسمع الملاهي، فإنها تنسيك الآخرة، ولكن احضر الجنائز، وزر المقابر.. تذكر الموت وما بعده من الأهوال فتأخذ حذرك"
مقدمة
إن المتمحص للعبارات سالفة الإيراد ليجد أنها بذرة لمجلد كامل مبوب معنون بعناوين عدة تعكس مطالب و جوانب متفرقة تتعلق بالحياة و الإنسان و المعاد و الحساب و أخلاقيات التعامل و حساب الذات و حكم الجوارح و جموح الإنسان و حيده و و و .... إلخ، مما يعكس العمق الفكري و التجذر الإيماني و النقاء الطرحي الذي بلغه لقمان عليه السلام بفضل من الله، و لكن مما يستوجب الإشارة إليه هو أن كل هذه الأمور أوجزها لقمان عليه السلام في سطور و كلمات قصار و محطات متفرقة يسهل توثيقها في العقل، و لكن مفتاح العقل و قناة الورود إليه هما ما يكونا في غالب الأحيان غائبين و دعوني أقول (عني) هنا حتى لا أقع في اتهام أحدا، متى ما بات مفتاح العقل و طريق الورود إليه سهلي المنال أصبح ورود مهذباته من أفكار إيمانية و خلقية سهلا يسيرا
نقاط استدراكية
فعلا، تقاس الأعمار و تحمل على صفة التزايد الظاهري للحظات العيش و النمو الجسماني و الترسب التاريخي للإنسان و الأمم، و لكن حقيقتها في العلم الإلهي متناقصة، فالمرء يولد و عمره معروف في العلم الإلهي بكل دقائقه و أحداثه، فتكون العملية تناقصية لا تزايدية كما هي لنا، تسير الأقدام في رحلة الحياة نحو الحتوف التي تكون نهايتها إما سلمات السمو إلى علياء الرضا الإلهي أم ينتهي الطريق إلى حفرة من حفر جهنم التي أسأل الله العلي القدير بكل صفة و اسم سؤل بهما فأجاب سائله أن يقي جميع المسلمين تلك العاقبة، و ما يرتبط بالمسير دائما هو أنه يطوي المسافة بين نقطة الإبتداء و الوجهة ، يزيد البعد بين نقطتي الوجود الزمني و البداية،و خير مسافر هو ذالك الذي يحسن حساب فرضيات الضياع و أخطار الطريق و يحسن الإعداد و التزود في محطاته الحياتية حيث تكون التقوى خير زاد و الإيمان خير راحلة دائما
تقضي العقول لحظات طويلة منغمسة في أهوال الدنيا و همومها، في تصرفات البشر و آثارها و توابعها، فيما يقترن بأخطائهم و مقترفاتهم و تنال من أرواحنا و أحاسيسنا ما تنال، فتتمايز ردود الفعل بين الصفح و الخصام، فهذه طبيعة البشر، و لكن الله جل و علا كتب على نفسه الرحمة التي سبقت دوما غضبه، و أصدر لنا و لسائر خلقه أمره بعدم القنوط و كان ذالك انعكاسا لصورة رائعة لإحساس سمي بالإستغفار و حالة سميت بالتوبة و رزق أهلهما عزة و علوا عنده، و من هذا أعرج إلى أمر دنيوي آخر و هو وهب الصفح عن من أساء إلينا أو ارتكب ذنبا في شخصنا فهل يكون التجاوز و الصفح أول اختياراتنا؟؟؟ لا أدري، و لكنني على ثقة تامة بأن من يمتلك تلك الخاصية المتمثلة بصفة الصفح دون تحقير لمن يهبها إليه كحالة قلبية هم جواهر البشر و أسيادهم
تمرد الجوارح صفة تخلق حينما يتلوث القلب و العقل و لجمها و كبح جموحها يكون دوما بالتذكرة المستمرة بغياب صفة الديمومة للحياة و البقاء، الجوارح ما هي إلا كهوف تتردد بها أصداء الأوامر التي يمليها عليها القلب و العقل، فهما اللذان يحكمان الإنسان حسا و فكرا، و تنقية تلك القناتين تكون بالتذكرة و الموعظة و البعد عن ملوثات الحياة و معوقات الدروب و ملهيات الفكر التي إما أن تعرقل المسافر في رحلته أم تهلكه في سفره، و يكون الخيار الأول و الأخير هنا للإنسان نفسه، فلا سلطة لأحد ترغمه و لا قوة تجبره، لأنها تسلب من أعماله صفة الأخلاص التي تحقق القبول للعمل و تطفي عليها صفة الإجبار التي تحل محلها، فلا جبر و لا تفويض، و لي في المطبات الهوائية و تغير أحوال الطقس عند السفر و تأثيرهما على استقرار الطائرة و سلامتها عظيم الأثر و العبرة، و الشعور الذي يتولد في القلوب حين المرور بتلك اللحظات أعظم تذكرة
خاتمة
كلام لقمان عليه السلام أعمق من أن أتناوله بعقيلي البسيط جدا جدا في أسطر معدودة، و لكن للمقام شروطه و أحكامه، فالمعذرة منه عليه السلام أولا و من ثم منكم و بانتظار الإستزادة من تعليقاتكم و إثراءاتكم، فلا تبخلوا على أخيكم بها، و المنفعة هنا جماعية و نسأل الله أن يسمو بنا إلى درجات الرضا العلى عنده